كنا مجموعة كبيرة من الطلاب السودانيين ندرس في الاتحاد السوفيتي الذي تفكك لمجموعة الدول المكونة للاتحاد. ندرس في مختلف التخصصات و المدن و تجمعنا عدة روابط أهمها الرسائل التي تصل بسرعة متنقلة من مدينة لأخرى و من جمهورية لجمهورية ، ثم المؤتمرات السنوية للاتحاد و التي كانت عبارة عن تظاهرة ثقافية كبري تقام فيها الندوات الأدبية و تنشر فيها الجرائد الحائطية الي ان ابتدعت مجموعة من الطلاب اذكر منهم د. بشري الفاضل الذي كان في مرحلة التحضير لدرجة الدكتوراه ، ابتدعوا ما صار يعرف " بسوق عكاظ " . كان ذلك السوق ذاخرا و غنيا بالإبداع يضاف للنشاط السياسي للطلاب الذي كان يصب مباشرة فوق رأس النظام المايوي ، اذ ان الفترة المذكورة كانت خلال ثمانينات القرن الماضي. ما ميز تلك الفترة هي كثرة الطلاب الأجانب و تنوعهم ، كانوا طلابا من جميع أنحاء العالم يتم ابتعاثهم لمختلف الاسباب لتلقي العلوم في اكبر بلدان العالم. ليس كما يعتقد البعض ان الدافع للسفر للاتحاد السوفيتي السابق و الدراسة فيه هو القناعات الأيدلوجية او الفكرية او التوافق السياسي بين انظمة الحكم. ذلك ليس صحيحا لان الطلاب يأتون من جميع انحاء العالم و أغلبيتهم العظمي من اجل العلم في المقام الأول و الأخير. هناك بالطبع الذين يحضرون عبر الاحزاب الشيوعية و الاشتراكية و جمعيات الصداقة ، لكنهم مختلفون منهم من ياتي للدراسة ، و هم فعلا يدرسون معظم أنواع التخصصات و يتخرجون في الطب و الهندسة و الاقتصاد و الفنون و اللغات بدون صبغة أيدلوجية مثل الطب الشيوعي و الهندسة الاشتراكية و غيرها من الأشياء التي لا وجود لها. اضافة لذلك هناك مجموعات اخري تبعث لتلقي فنون القتال العسكري و التدريب في اطار التعاون العسكري بين بلدانهم و الاتحاد السوفيتي و منهم الكثير من الدول العربية مثل مصر ، سوريا ، الجزائر و العراق و العديد غيرها ، حتي ان الرئيس المصري الحالي حسني مبارك كان من الذين درسوا هناك. و أخيرا هناك المجموعات التي تذهب لأسباب حزبية و ايدلوجية بحتة و هؤلاء غالبا ما يدرسون في معاهد و منظمات او أكاديميات خاصة بالحزب الشيوعي السوفيتي و لا يمكن حسابهم من ضمن مجموعات الطلاب العاديين. في ذلك الجو الذي كان يتميز بالهدوء و استتباب الأمن و ندرة النزعات العنصرية الصارخة في اوربا و في غياب حالات التعصب و موجات الإرهاب العاتية عشنا عدد من السنين. اختلطنا بثقافاتنا و تطلعاتنا مع بقية شعوب العالم ، تواصلنا معهم و تعلمنا منهم و أعطيناهم مما لدينا من أشياء ، بقدر ما توفر لنا. من الأشياء التي واجهتنا افتقار ثقافتنا للكثير من التقاليد الراسخة في الغرب و الشرق معا. من تلك الاشياء طبيعة الاحتفال بالاعياد المختلفة و منها الاحتفال بالعام الميلادي الجديد المعمول به في جميع انحاء العالم. كان لشعوب البلدان المختلفة تقاليد في الاحتفال و بما ان المظاهر الدينية غير معمول بها بشكل عام و علني في الاتحاد السوفيتي في المناسبات الاجتماعية فقد كانت معظم الممارسات تتم في الطابع الاجتماعي المستمد من عادات الشعوب و ثقافاتها.لكل من تلك الشعوب أهازيج و اغنيات و رقصات و لبعض منها انواع من الطعام ناهيك عن المشروبات. اما نحن فنشعر بالضياع وسط تلك الكرنفالات الصاخبة و نحتار بين التقليد او الانكفاء. تفرجنا علي الطلاب من اوربا و الأمريكيتين و من بلدان مثل الهند ، فيتنام و من الشام و الطلاب الاكراد و غيرهم من شعوب الارض. اكبر دليل علي تمسكنا بتلك المناسبات مع فقر قدراتنا في ابداع ثقافة خاصة للاحتفال بها هو ما يجري الان من ممارسات خلال اعياد راس السنة من رش بالمياه و رمي البيض و دقيق القمح علي المارة و السيارات و هي ممارسات لا علاقة لها بالرقي او التحضر او حتي الفرح. قمت بمبادرة في واحد من اعياد رأس السنة بترديد مقطع " اصبح الصبح فلا السجن و لا السجان باق" راق ذلك للسودانين فتلقفوا النشد و ساروا به وسط جموع المحتفلين. انضم الينا عدد من الطلاب العرب و اشتركوا مع في الغناء و ربما وقع منهم النشيد موقعا حسنا لمعاناتهم جميعا من السجن و السجان في بلادهم ، و هكذا اصبح ذلك النشيد هو أهزوجة احتفالاتنا براس السنة كلما جمعتنا تلك المناسبة في مدينة لينينغراد ( سانت بطرسبورغ حاليا ) ، الي ان تفرقت بنا السبل و جاء غيرنا ليفعل باحتفاله ما شاء. بعد عدة ايام من ذلك قال لي واحد من الزملاء الطلاب انه لم يدرك معني النشيد الا صباح اليوم التالي عند ربطه بعيد الاستقلال، و لا غرابة في ذلك اذ اننا كنا في بداية عهدنا بالاغتراب و في مقتبل العمر. حتي اليوم يغني الناس في عيد الاستقلال " اصبح الصبح " و لكنهم لا يربطون ذلك بشكل مباشر برأس السنه و انما يوفرون المياه و البيض للمناسبة الخاصة باستقبال العام الجديد و يتعاملون مع يوم الاستقلال كيفما اتفق. ربما من دلالات ذلك ان الاستقلال لم يرسخ بمضمون ايجابي في أذهان السودانيين حتي يومنا هذا. ابعد من ذلك هو ان الاستقلال كان احلي و اجمل في ايامه الاولي و حتي بداية سبعينيات القرن العشرين ، عندما كان الامل في التحرر و التقدم و الرخاء يرفرف فوق السودان. شيء من ذلك لم يحدث حتي اليوم ، بل العكس هو الصحيح ، فبدلا من السير الي الامام نحو التنمية و الازدهار تزداد عندنا معدلات الفقر و تمسك الازمات بتلابيب الوطن الذي يسير بخطي متسارعة نحو الانفصال و التمزق. هل هناك امل في ان يطل علينا الفجر بجناحين يرشان قيم الخير و التسامح علي مآقي الوطن الدامعة و ان يكحلانها بالوان الوحدة و الديمقراطية و الحرية و ان تصبح لدينا قيم جامعة لجميع السودانيين في جميع المناسبات و ان يفتخر اطفالنا بوطنهم و يغنون له. عسي ان يصبح الصبح علي هذه البلاد فيقول الجميع و هم فرحون ، صباح الخير. بالمناسبة ، هذا العام كانت الخرطوم جميلة خلال اعياد نهاية السنة و الاستقلال ، كما لم تكن منذ زمن بعيد و بذلك استحقت من يتجول فيها بالليل ان يتذكر ايامها الخوالي و يقول لها ن مساء الخير.